«رب ضارة نافعة» هو مثال أطلق على الشيء الضار الذي يتحقق من ورائه منفعة، فبالرغم من تأثير شرب الكحوليات على الصحة العامة للإنسان -طبقًا ما أثبتته الأبحاث والدراسات- إلا أنها كانت سببًا في في تقدم وتطور مستقبل البشرية، فعلى سبيل المثال كانت مدخلاً ساعد آباءنا الأوائل في التوصل إلى الكتابة والفنون والطب؟.
فقد أكدته دراسات علمية عدة نُشرت حديثاً، منها ما أجرته جامعة سانتا في كوليج في جاينسفيل بالولايات المتحدة، موضحة أنه على رغم تأثير إدمان الكحول في الصحة، إلّا أن شربه لم يكن سيئاً بالنسبة للبشرية؛ لإن شرب الإنسان الكحول في حدوث طفرة بشرية سريعة وصلت إلى 40 مرة مقارنة بفترة ما قبل شربه، بحسب دراسة الجامعة السالف ذكرها.
وتقول الدراسة إنه منذ 10 ملايين سنة حدث تغير لدى الجد الأفريقي للإنسان والقرود الكبرى، ما سمح لجسمه بالتفاعل مع الإيثانول أو كحول الإيثيلي.
وتؤكد الدراسة أن هذا التغيير تم عن طريق المصادفة، إذ اضطرت القرود الآكلة الفواكة إلى النزول من فوق الأشجار التي كانت تعيش عليه، بحثًا عن مصدر غذائي آخر فوجدت نفسها مجبرة على تناول الفواكه الساقطة على الأرض التي تخمر جزء منها بالفعل.
تناول هذه الفواكه المخمرة كان مفيداً لهذه الأنواع في هذا الوقت، إذ ساهم في تباطؤ عملية «الاستقلاب»، بالتالي تحفيز تخزين الدهون وتحفيز الهضم.
لم تكن هذه الفواكه المختطلة بكحول الإيثانول ذات طعم حلو، لكن كان ينبغي لآبائنا تخفيض نسبة الإيثانول من أجل تجنب السقوط تحت تأثير السُّكر، لأن السكر والنوم تحت أشجار في بيئة تحيطها الحيوانات المفترسة كان أمراً مصيرياً.
وعلى صعيد دراسة أخرى، نشرت تحت عنوان «أطروحة القرود السكارى»، في 2004، بواسطة العالم البيولوجي روبرت دودلي، والتي توضح أن الجنس البشري صُمم جينياً للانجذاب إلى الكحول وتناوله، إذ سعى الأجداد إلى معرفة تأثيره في المزاج، وهو ما حفز لديهم صفة المغامرة.
العسل الكحولي.. المشروب الأول
وبحث تقرير قناة «بي بي سي» أن عسل الكحولي هو أول نوع من الكحوليات تعرفت عليه البشرية بعد توصل أجدادنا إلى تأثير الفاكهة الكحولية وإنجذابهم إليها.
ويقول روجر مورس لأستاذ في جامعة كورنل بالولايات المتحدة، والذي ورد كلامه في مجلة «ساينس اي فينور»: «تشكل المشروب الأول المسمى (هيدروميل)، من خلال تكوين النحل العسل والشمع في جذوع الأشجار التي سقطت على الأرض، ثم تخمره بمياه الأمطار، فبمجرد تخفيف العسل بالماء بنسبة 70% تبدأ عملية التخمر، وينتج (الهيدروميل) أو مشروب (الميد)».
يشرح أستاذ علم الآثار الجزئية البيولوجية في جامعة بنسلفانيا الأميركية، والمختصّ الشهير بالمشروبات القديمة، باتريك مكغوفرن، أنه مع الرطوبة وانتشار الرائحة المغرية، بدأ الإنسان الأول تناول العسل المتخمر، ثم تقاسمه مع الأفراد من جنسه، الأمر الذي فتح الطريق لأول عملية تناول جماعي مشروباً واحداً، بحسب مقال في ناشيونال جيوغرافيك.
الكرمة مشروب الفصل الواحد
توصلت الجماعات البدوية إلى نوع آخر من الكحوليات وهو كحل الكرمة، ولكنها كانت تنتظر عاماً بعد عام لتخمره، والأزمة في ذلك الوقت أن توقيت تحضير هذا المشروب الكحولي كان مقتصراً على فصل الخريف، لذا كان من الضروري شربه سريعاً قبل أن يتحول حامضاً.
ومع الوقت، بدأ الإنسان الأول يزرع شجر الكرمة، في الفترة بين 10 آلاف و5 آلاف عام قبل الميلاد، وربما بدأ في الجنوب الشرقي للأناضول بين نهري دجلة والفرات، في الهلال الخصيب الذي يعد مهد الحضارات، بحسب دراسة العالم السويسري في الجينات، جوزيه فويلاموز في دراسة نشرتها «بين ميوسيوم».
ويرى فويلاموز أن هذه المنطقة أيضاً شهدت الزراعة الأولى للنباتات الثمانية المؤسسة زراعة «الإيمير» القمح، الشعير، الكتان، الحمص وغيرها.
فيما يوضح مكغوفرن ودودلي أن الإنسان بدأ زراعة الحبوب في البداية لإعداد حساء سميك من البيرة المبهجة والغذائية، الذي كان إعداده أسهل من صناعة الخبز، قبل أن يتناول النخب الجماعي مع بدء خطواته الأولى في الاستقرار وتكوين مجتمع.
مصر أول دولة تصنع «البيرة»
في عالمنا العربي، كانت مصر أول دولة تصنع الخمر، بل كانت الكحول جزءاً من الثقافة السائدة في مصر القديمة، بخاصة في شكل البيرة. وكانت تصنع من الشعير والعسل والأعشاب، بل والتوابل، وكان الفراعنة يفضلونها على المياه، على الأرجح بسبب البكتيريا التي يحتويها النيل، الأمر الذي كان يتطلب غليانها لتنقيتها.
وعثر علماء على بقايا من جرار النبيذ داخل القبور في عصر الملك «أحا» من الأسرة الأولى.